عناوین:

أمدح بيت شعر وأكذب بيت!

PM:05:24:22/03/2025
132 مشاهدة
تركي الدخيل
+ -

الافتخار بالأحساب قديم متجذر في العرب، ومن أجوده قول أبي الطمحان القيني، مفتخرا بقومه في وصفهم:

أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم

دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه

وهذا بيت من أشهر أبيات الشعر العربي، و«يقال إن هذا البيت من أمدح شعر العرب وأكذبه وأبلغه»، (الدر الفريد وبيت القصيد).

والبيت لأبي الطمحان القيني (ت نحو 30 ه‍ = نحو 650 م)، وكان شاعرا، فارسا، صعلوكا.

وصف بيت أبي الطمحان بأنه من أمدح شعر العرب، وأكذبه، وأبلغه.

فأما الأولى: (أمدح)، فالوصول إليها، وإن لم يكن سهلا، إلا أنه ليس متعذرا، طالما تحققت الثانية: (أكذبه).

على أني أتحفظ على تكرار وصف البيت، بأنه أكذب ما قالت العرب شعرا، وذلك لسببين:

الأول: أن الجزم بأفعل التفضيل، يستلزم الاستقصاء، والإحاطة بالكذابين، وهذا من المتعذر من الأشياء بالضرورة.

الثاني: أن حصول الاتفاق على الحال، مع معرفة الطرفين بما كان وسيكون، ينفي الغرر، ويبطل الجهالة، والبيعان بالخيار ما لم يتفرقا.

فلم يقل الشاعر لأحد في الدنيا، بأنه سيربط أحساب الممدوحين ووجوههم بتيار كهربائي، يمدهم بضوء، يحيل ظلمة الليل الكالح، نهارا مشرقا!

الجميع يعرف، بداية من الممدوح، مرورا بالمادح، وليس نهاية بالمشاهدين، والمستمعين، بأن الشاعر يسعى ليخرق الأرض طولا، بالمبالغة في المدح، ولم يعترض إلا بعض النقاد، الذين لا يمكن أن يرضوا، لا بمدح ولا بهجاء، ولا يرضيهم صدق ولا كذب، هداهم الله، وهدأ بالهم.

الشاعر يقول: بأن ممدوحيه، لعراقة أحسابهم، وبياض وجوههم، إثر حسن فعالهم، أضاءت بالعراقة والبياض، الوجوه والأحساب، فكان هذا الضياء سببا في أن ينير الليل المظلم إضاءة جعلت من اليسير، أن ينظم من ثقب الجزع، وهو من الفصوص، التي تصنع منها القلائد، عبر ثقب كل حبة منها، وربط حبوب الجزع، ونظمها بخيط، يدخل في ثقب كل حبة، ويجمعهن في العقد.

فضياء الوجوه والأحساب، الذي أنار الليل، جعل ثاقب الجزع، يستطيع أن يدخل الحبل في الثقب، لينظم العقد، من شدة وضوح الإضاءة!

الجزع: نوع من العقيق، ذي خطوط مستديرة متوازية.

في «خزانة الأدب»، قال ابن حجة الحموي:

«يعجبني من أمثلة المبالغة في المديح قول القائل:

أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم

دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه

فالمعنى تم للناظم، لما انتهى في بيته، إلى قوله: دجى الليل، ولكن زاد بما هو أبلغ، وأبدع، وأغرب، في قوله: حتى نظم الجزع ثاقبه.

يريد أن هذا البيت يمثل قمة المبالغة في المديح. فالشاعر لم يكتف بوصف أن الأحساب والوجوه تضيء في الظلام، بل زاد بأن هذا النور يكفي لإضاءة عملية، تحتاج إلى دقة بصرية عالية، مثل ثقب الخرز، مما يجعل المبالغة، أكثر تأثيرا، وتصويرا.

قوله: نظم الجزع: وصف الجزع، بأنه نوع من العقيق، يعطي البيت طابعا من الجمالية البصرية.

فالعقيق بخطوطه المستديرة المتوازية، يعكس نوعا من النظام والجمال، الذي يتناسب مع النور الذي يصفه الشاعر، وكأن النور ينظم العالم من حوله بجمال وانتظام.

قال الحسن اليوسي:

«قوله: نظم الجزع ثاقبه، يريد أنهم لو استضاء بضيائهم في غياهب الظلام من يثقب الخرز الذي هو أشد شيء لأبصر ذلك، فكيف بما هو أظهر؟ وهذه غاية المبالغة في تنزيل المعقول منزلة المحسوس».

يلفت اليوسي إلى أن الشاعر يحول المعقول (المفهوم)، إلى محسوس، مما يجعل البيت، يتجاوز كونه مجرد مدح، ليصبح تجربة بصرية، وحسية للمتلقي.

وهو ما يعكس قدرة الشعر، على تحويل المجازات، إلى تجارب حية.

البوم الصور